فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

احتج الأصحاب بهذه الآية على أن الإيمان لا يحصل إلا بإعانة الله، والكفر لا يحصل إلا بخذلانه، والوجه فيه ظاهر لأنها دالة على أن الأمر كله لله. اهـ.
فصل:
قال الفخر:
قوله: {مِن بَعْدِهِ} فيه وجهان:
الأول: يعني من بعد خذلانه، والثاني: أنه مثل قولك: ليس لك من يحسن إليك من بعد فلان. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون}:

.قال الفخر:

يعني لما ثبت أن الأمر كله بيد الله، وأنه لا راد لقضائه ولا دافع لحكمه، وجب أن لا يتوكل المؤمن إلا عليه، وقوله: {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} يفيد الحصر، أي على الله فليتوكل المؤمنون لا على غيره. اهـ.

.قال البغوي:

{وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} قيل: التوكل أن لا تعصي الله من أجل رزقك وقيل: أن لا تطلب لنفسك ناصرًا غير الله ولا لرزقك خازنًا غيره ولا لعملك شاهدا غيره.
أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن شجاع البزَّار ببغداد، أخبرنا أبو بكر محمد بن جعفر بن محمد الهيثم الأنباري، أخبرنا محمد بن أبي العوام أخبرنا وهب بن جرير، أخبرنا هشام بن حسان عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل سبعون ألفًا من أمتي الجنة بغير حساب» قيل: يا رسول الله مَنْ هم؟ قال: «هم الذين لا يكتوون ولا يسَتْرقُون ولا يتطيرّون وعلى ربهم يتوكلون» فقال عكاشة بن محصن: يا رسول الله أدعُ الله أن يجعلني منهم قال: «أنت منهم» ثم قام آخر فقال: يا رسول الله أدعُ الله أن يجعلني منهم فقال: «سبقك بها عكاشة».
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، أنا عبد الله بن المبارك، عن حياة بن شريح، حدثني بكر بن عمرو، عن عبد الله بن هبيرة، أنه سمع أبا تميم الجيشاني يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أنكم تتوكّلوُن على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خِماصًا وتروح بطانا». اهـ.

.قال ابن عاشور:

وجملة {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} تذييل قصد به الأمر بالتَّوكل المستند إلى ارتكاب أسباب نصر الله تعالى: من أسبابٍ عادية وهي الاستعداد، وأسبابٍ نفسانية وهي تزكية النفس واتّباع رضَى الله تعالى. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَعَلَى الله} لا على غيره كما يؤذن بذلك تقديم المعمول.
{فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} المراد بهم إما جنس المؤمنين والمخاطبون داخلون فيه دخولًا أوليًا، وإما المخاطبون خاصة بطريق الالتفات وعلى التقديرين لا يخفى ما في ذلك من تشريف المخاطبين مع الإيماء إلى تعليل تحتم التوكل عليه تعالى، والفاء كما قالوا: لترتيب ما بعدها أو الأمر به على ما مرّ من غلبة المؤمنين ومغلوبيتهم على تقدير نصر الله تعالى لهم وخذلانه إياهم فإن العلم بذلك مما يستدعي قصر التوكل عليه سبحانه لا محالة. اهـ.

.قال ابن جزي:

التوكل هو الاعتماد على الله في تحصيل المنافع أو حفظها بعد حصولها وفي دفع المضرات ورفعها بعد وقوعها وهو من أعلى المقامات لوجهين أحدهما قوله إن الله يحب المتوكلين والآخر الضمان الذي في قوله ومن يتوكل على الله فهو حسبه وقد يكون واجبا لقوله تعالى وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين فجعله شرطا في الإيمان والظاهر قوله جل جلاله وعلى الله فليتوكل المؤمنون فإن الأمر محمول على الوجوب.
واعلم أن الناس في التوكل على ثلاثة مراتب:
الأولى أن يعتمد العبد على ربه كاعتماد الإنسان على وكيله المأمون عنده الذي لا يشك في نصيحته له وقيامه بمصالحه.
والثانية أن يكون العبد مع ربه كالطفل مع أمه فإنه لا يعرف سواها ولا يلجأ إلا إليها.
والثالثة أن يكون العبد مع ربه كالميت بين يدي الغاسل قد أسلم نفسه إليه بالكلية فصاحب الدرجة الأولى له حظ من النظر لنفسه بخلاف صاحب الثانية وصاحب الثانية له حظ من المراد والاختبار.
بخلاف صاحب الثالثة وهذه الدرجات مبنية على التوحيد الخاص الذي تكلمنا عليه في قوله وإلهكم إله واحد فهي تقوى بقوته وتضعف بضعفه.
فإن قيل هل يشترط في التوكل ترك الأسباب أم لا فالجواب أن الأساب على ثلاثة أقسام:
أحدهما سبب معلوم قطعا قد أجراه الله تعالى فهذا لا يجوز تركه كالأكل لدفع الجوع واللباس لدفع البرد.
والثاني سبب مظنون كالتجارة وطلب المعاش وشبه ذلك فهذا لا يقدم فعله في التوكل لأن التوكل من أعمال القلب لا من أعمال البدن ويجوز تركه لمن قوي عليه.
والثالث سبب موهوم بعيد فهذا يقدم فعله في التوكل ثم إن فوق التوكل التفويض وهو الاستسلام لأمر الله تعالى بالكلية فإن المتوكل له مراد واختيار وهو يطلب مراده باعتماده على ربه وأما المفوض فليس له مراد ولا اختيار بل أسند المراد والاختيار إلى الله تعالى فهو أكمل أدبا مع الله تعالى. اهـ.

.قال الثعلبي:

اختلفت عبارات العلماء في معنى التوكل وحقيقة المتوكل:
فقال سهل بن عبد الله رحمة الله عليه: أول مقام التوكل، أن يكون العبد بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل، يقلّبه كيف أراد لا يكون له حركة ولا تدبير، والمتوكل لا يسأل ولا يرد ولا يحبس.
أبو تراب النخشبي: التوكل الطمأنينة إلى الله عزّ وجلّ. بشر الحافي: الرضا، وعن ذي النون وقد قال له رجل: يا أبا الفيض ما التوكّل؟
قال: خلع الأرباب وقطع الأسباب. فقال: زدني فيه حالة أخرى.فقال: إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية.
وقال إبراهيم الحواص: حقيقة التوكل إسقاط الخوف والرجاء ممّا سوى الله، ابن الفرجي: ردَّ العيش لما يوم واحد وإسقاط غم غد، وعن علي الروذباري قال: مراعاة التوكل ثلاث درجات:
الأولى منها: إذا أعطى شكر وإذا مُنع صبر.
والثانية: المنع والإعطاء واحد.
والثالثة: المنع مع الشكر أحب إليه، لعلمه باختيار الله ذلك له.
وروى عن إبراهيم الخواص أنه قال: كنت في طريق مكة، فرأيت شخصًا حسنًا فقلت: أجنيٌ أم إنسيٌ؟
فقال: بل جنيٌّ. فقلت: إلى أين؟
فقال: إلى مكة. قلت: بلا زاد؟
قال: نعم، فينا أيضا من يُسافر على التوكل. فقلت له: ما التوكل؟
قال: الأخذ من الله.
ذو النون أيضا: هو انقطاع المطامع.
سهل أيضا: معرفة معطي أرزاق المخلوقين ولا يصح لأحد التوكل حتى تكون السماء عنده كالصِفر والأرض عنده كالحديد، لا ينزل من السماء مطر ولا يخرج من الأرض نبات، ويعلم أن الله لا ينسى ما ضمن له من رزقه بين هذين.
وعن بعضهم: هو أن لا يعصي الله من أجل رزقه.
وقال آخر: حسبك من التوكل أن لا تطلب لنفسك ناصرًا غير الله ولا لرزقك خازنًا غيره ولا لعملك شاهدًا غيره.
الجنيد (رحمه الله): التوكل أن تقبل بالكلية على ربّك، وتعرض ممّن دونه.
النوري: هو أن يفني تدبيرك في تدبيره، وترضى بالله وكيلا ومدبرًا، قال الله عزّ وجلّ: {وَكَفَى بِالله وكيلا} وقيل: هو اكتفاء العبد الذليل بالربّ الجليل، كاكتفاء الخليل بالخليل حين لم ينظر إلى عناية جبرئيل.
وقيل: هو السكون عن الحركات اعتمادًا على خالق الأرض والسماوات.
وقيل لبهلول المجنون: متى يكون العبد متوكلًا؟
قال: إذا كان النفس غريبًا بين الخلق، والقلب قريبًا إلى الحق.
وعن محمد بن عمران قال: قيل لحاتم الأصم: على ما بنيت أمرك هذا من التوكل؟
قال: أربع خلال: علمت أن رزقي ليس يأكله غيري فلست أُشغل به، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أُبادره، وعلمت أني بعين الله في كل حال فأنا مستحي منه.
وعن أبي موسى (الوبيلي) قال: سألت عبد الرحمن بن يحيى عن التوكل فقال لي: لو أدخلت يدك في فم التنين حتى تبلغ الرسغ، لم تخف مع الله شيئًا.
قال أبو موسى: (ذهبت) إلى أبي يزيد البسطامي: أسأله عن التوكل، فدخلت بسطام ودفعت عليه الباب فقال لي: يا أبا موسى ما كان لك في جواب عبد الرحمن من القناعة حتى تجيء وتسألني؟
فقلت: افتح الباب، فقال: لو زرتني لفتحت لك الباب، (وإذا) جاء الجواب من الباب فانصرف: لو أن الحيّة المطوقة بالعرش همّت بك لم تخف مع الله شيئًا.
قال أبو موسى: فانصرفت حتى جئت إلى دبيل فأقمت بها سنة، ثم أعتقدت الزيارة فخرجت إلى أبي يزيد فقال: زرتني مرحبًا بالزائرين لاأخرجك، قال: فأقمت عنده شهرًا لا يقع لي شيء إلاّ أخبرني قبل أن أسأله فقلت له: يا أبا يزيد أخرج وأريد فائدة منك أخرج بها من عندك.
قال لي: اعلم أن فائدة المخلوقين ليست بفائدة، حدثتني أُمّي أنها كانت حاملة بي وكانت إذا قدمت لها القصعة من حلال امتدت يدها وأكلت، وإذا قدمت من حرام جفت فلم تأكل، اجعلها فائدة وانصرف. فجعلتها فائدة وانصرفت.
وكان عمر (رضي الله عنه) يتمثل بهذين البيتين:
هوّن عليك فإن الأمور ** بأمر الإله مقاديرها

نفس ليأتيك مصروفها ** ولا عادك عنك مقدورها

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ الله ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَالله يُحْيِي وَيُمِيتُ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى الله تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ الله فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)}.
قوله عز من قائل: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان} يعني يوم أحد، وذكر محمد بن إسحق أن ثلث الناس كانوا مجروحين، وثلثهم انهزموا، وثلثهم ثبتوا.
ومن المنهزمين من ورد المدينة وكان أولهم سعد بن عثمان أخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل. ثم بعده رجال ودخلوا على نسائهم وجعل النساء يقلن: أعن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرون؟ وكن يحثين التراب في وجوههم ويقلن: هاك المغزل أغزل. وقال بعض الرواة: إن المسلمين لم يعدوا الجبل. قال القفال: الذي تدل عليه الأخبار في الجملة أن نفرًا قليلًا تولوا وأبعدوا، فمنهم يبعد، بل ثبت على الجبل إلى أن صعد النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم أيضا عثمان انهزم هو مع رجلين من الأنصار- يقال لهما سعد وعقبة- انهزموا حتى بلغوا موضعًا بعيدًا، ثم رجعوا بعد ثلاثة أيام فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: لقد ذهبتم فيها عريضة. وأما الذين ثبتوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا أربعة عشر رجلًا. سبعة من المهاجرين: أبو بكر، وعلي وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وأبو عبيدة بن الجراح، والزبير بن العوّام. وسبعة من الأنصار: الحباب بن المنذر، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت، والحرث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وأسيد بن حضير، وسعد بن معاذ. وذكر أن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذٍ على الموت ثلاثة من المهاجرين: علي وطلحة والزبير. وخمسة من الأنصار: أبو دجانة، والحرث بن الصمة، وحباب بن المنذر، وعاصم بن ثابت، وسهل بن حنيف. ثم لم يقتل منهم أحد وروى ابن عيينة أنه أصيب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو من ثلاثين كلهم يجيء ويجثو بين يديه ويقول: وجهي لوجهك الفداء وعليك السلام غير مودع {إنما استزلهم الشيطان} تقول: زللت يا فلان تزل زليلًا إذا زل في طين أو منطق. والاسم الزلة، واستزله غيره كأنه طلب منه الزلة ودعاه إليها. والباء في {ببعض ما كسبوا} للاستعانة مثلها في: كتبت بالقلم. والمعنى أنه كان قد صدر عنهم جنايات، فبواسطة تلك الجنايات قدر الشيطان على استزلالهم في التولي. وعلى هذا التقدير ففيه وجوه: قال الزجاج: إنهم لم يتولوا على جهة المعاندة ولا على جهة افرار من الزحف رغبة منهم في الدنيا، وإنما ذكرهم الشيطان ذنوبًا كانت لهم فكرهوا لقاء الله إلى على حال يرضونها وإلا بعد الإخلاص في التوبة. فهذا خاطر خطر ببالهم وكانوا مخطيئن فيه وقيل: إنهم لما أذنبوا بسبب مفارقة المركز، أوقعهم الشيطان بشؤم تلك المعصية في الهزيمة. وقيل: كانت لهم ذنوب قد تقدمت، فبشؤمها قدر الشيطان على دعائهم إلى التولي لأن الذنب يجر إلى الذنب كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة وتكون لطفًا فيها.